الشهادة و الشهود فی القرآن الکریم

پدیدآورمحمدمهدی الأصفی

نشریهالفکر الاسلامی

شماره نشریه20

تاریخ انتشار1389/12/07

منبع مقاله

share 1818 بازدید
الشهادة و الشهود فی القرآن الکریم

محمد مهدی الآصفی

« وَمَا تَکُوُن فِی شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ کُنَّا عَلَیْکُمْ شُهُودا »(1) .

الدنیا دار الشهود :

هل الدنیا دار شهود أم دار خفاء ؟
وهل بمقدور الإنسان أن یتکتّم باعماله فی الحیاة الدنیا ، فیخفیها ویسترها بحیث لا یشعر بها أحدٌ ، أم انّه مرصود فی کلّ عملٍ یعمل أو قول یصدر عنه ، أو خطرات قلب تمرّ فی خاطرهِ فلا یخفی منه شیء مهما حاول ذلک ؟
إنّ خاصیّة الشهود هی خاصیّة النور ، وإنّ خاصیّة الخفاء هی خاصیّة الظلام ، ومن طبیعة النور أن یکشف الأشیاء ، ومن خاصیّة الظلام أن یخفی الأشیاء .
نعید طرح السؤال بعبارة اُخری فی ضوء هذه الخاصیّة وتلک .
فاقول : هل یعیشُ الإنسان فی الحیاة الدنیا محفوفا بالظلام ، فیستطیع أن یستتر به ، ام أنّه یعیش فی النور ، فلا یمکنه أن یتکتم بقول أو فعل أو قصد ؟
إنّ سلوک الإنسان وعقیدته رهن الاجابة علی هذا السؤال ، فما هو موقف القرآن الکریم وحکمه ؟
إنّ القرآن الکریم یقطع وبکلّ وضوح أنّ دار الدنیا دار شهود ولیس فیها من موضع للخفاء ، وکلّ ما یصدر عن الإنسان ، بل ما یخطر فی قلبه أیضا خاضع لـ « کشف » و« رصد » دقیقین .
وربما یغفل الإنسان عن الکشف والرصد اللّذین یخضع لهما ، فیتوهّم أنـّه یعیش الخفاء عندما یبتعد عن عیون الناس ، وکأنـّه غیر خاضع للمراقبة والرصد ، ولکن الشهود الّذین سلّطهم اللّه‏ تعالی علیه ، ومکّنهم من معرفة أحواله ، لا یغادرون صغیرة ولا کبیرة من أفعاله إلاّ أحصوها علیه .
« مَالِ هَذَا الکِتابِ لاَ یُغَادِرُ صَغِیرَةً وَلاَ کَبِیرَةً إِلاَّ أَحْصاهَا »(1) .
إنّ مثل الإنسان فی هذه الدنیا کمثل الحیوان المعروف ب ( النعامة ) تخفی رأسها فی الرمال حینما یداهمها الصیّادون ، تتوهّم أنّهم لن یروها .
یقول القرآن الکریم علی لسان لقمان علیه‏السلام فیما کان یعظ به ابنه : « یَا بُنَیَّ إنَّهَآ إِن تَکُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَکُن فِی صَخْرَةٍ أَوْ فِی السَّمَوَاتِ أوْ فِی الاْءَرْضِ یَأت بِهَا اللّه‏ُ إِنَّ اللّه‏َ لَطِیفٌ خَبِیرٌ »(2) .
فلا یخفی علی اللّه‏ سبحانه وتعالی شیء من أمر خلقه ، ولا یغیب ، ولا ینفلت شیء من قبضة سلطانه ، حتی لو کان مثقال حبة من خردل فی عمق صخرة أو فی باطن الأرض أو فی أَبراج السماوات .
ویقول تعالی : « وَمَا تَکُوُن فِی شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَتَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ کُنَّا عَلَیْکُمْ شُهُودا إِذْ تُفِیضُونَ فِیهِ وَمَا یَعْزُبُ عَن رَّبِّکَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِی الاْءَرضِ وَلاَ فَی السَّمَآءِ وَلاَآ أَصْغَرَ مِن ذَلِکَ وَلاَآ أَکْبَرَ إِلاَّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ »(1) .
ویقول تعالی : « اَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه‏َ یَعْلَمُ مَا فِی السَّمَوَاتِ وَمَا فِی الاْءَرْضِ مَا یَکُونُ مِن نَّجْوی ثَلاَثَةٍ إِلاَ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَی مِن ذَلِکَ وَلاَ أَکْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَیْنَ مَا کَانُواْ ثُمَّ یُنَبِّؤهُم بِمَا عَمِلُواْ یَوْم الْقِیَامةِ إِنَّ اللّه‏َ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ »(2) .
اذن ، فان اللّه‏ تعالی مع الإنسان فی کل حالاته ، ولا یستطیع أن یفلت من مراقبته ، أو یستتر عن شهوده « الا هو معهم اینما کانوا » ولیس بعد المعیّة الإلهیة من معیّة أو حضور أو شهود أقوی من معیّة اللّه‏ تعالی وحضوره وشهوده .

معیّة المراقبة ومعیّة التکریم :

إنّ المعیّة التی اشرنا إلیها فیما سبق إنما هی معیّة ( مراقبة ) ، والمعیّة الإلهیّة معیّتان : معیّة تکریم ، ومعیّة مراقبة
وتختص الاُولی منهما بعباد اللّه‏ الصالحین الذین یفیض علیهم سبحانه بتکریمه ، فیسبغ علیهم معیته ، ویخصّهم بها دون غیرهم .
یقول عز من قائل : « وَالَّذِینَ جَاهَدُواْ فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّه‏َ لَمَعَ الْمُحْسِنِینَ »(3) .
أمّا المعیة التی وردت فی قوله تعالی « الا هو معهم اینما کانوا » ، فهی عامة لکل الناس ، برّهم وفاجرّهم ، صالحهم وطالحهم ، المؤمن منهم والکافر علی حدٍ سواء . إنّ هذه المعیة تعنی المراقبة والحضور والشهود ولا تحدّ بحالة ، وزمان أو مکان « اینما کانوا » .

الکتاب الکاشف :

إن کل ما فی هذا الکون من البَر والبحر ، والأرضِ والسماء ، والرطب والیابس ، فی الظلام والنور ، انما هو فی کتاب مبین کاشف عند اللّه‏ سبحانه الذی لا یغیب عنه شیء ولا یفوته إحصاء شیء .
« وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ لاَ یَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَیِعْلَمُ مَا فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ یَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فی ظُلُمَاتِ الاْءَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ یَابِسٍ ، إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُّبِین »(1) .
إن هذا الکتاب محیط بکل شیء ، یسجل کل حرکه وسکون ، ویحصی کل ما یجری ، وهو حاضر عند اللّه‏ تعالی ، الرقیب علی کل شیء .
ونحن یقصر علمنا عن کنهِ هذا اللوح الحافظ وحقیقة هذا الکتاب المبین ، ولکننا نؤمن بوجوده وکشفه ورصده .

شهود الظاهر والباطن :

ولا یقتصر أَمر الشهود علی الظاهر من حرکات الجوارح المشهودة بالحس ، وإِنما یشمل الباطن ، وحرکة الجوانح ، کما یشمل عمل الجوارح ، فهو ـ إذن ـ شامل لظاهر الإنسان وباطنهِ ، وما یجترحهُ من الاثمِ الخارجی ، وما ینطوی علیه من الإثم الباطنی .
ولا یختلف إِثمٌ عن اثمٍ ، فإن إثم الباطنِ کإثمِ الظاهر ، ان لم یکن أَقبح منه .
وقد نهی اللّه‏ عزّوجلّ عن الاثّمِ ، ظاهرهُ ، وباطنه .
« وذروا ظاهر الإثم وباطنه »(2) .
إِنّ کل اثم ـ أظهره الإنسان أو أستبطنه ـ یقع تحت رصد هذا الضوء الکاشف الذی یُحصی أعمال الإنسان ، ما ظهر منها وما خفی ، حتی دبیب الوسوسة فی نفسهِ .
« وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاْءِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ »(1) .
إِن الوسوسة قد تزحف الی الأعماق غیر المرئیة من نفس الإنسان ، وقد تخفی علی الإنسان نفسه ، إلاّ أنها لا تخفی علی اللّه‏ الذی هو أقرب الی الإنسان من حبل الورید .
« إِنَّهُ یَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَیَعْلَمُ مَا تَکْتُمُونَ »(2) . « یَعْلَمُ خَآئِنَةَ الاْءَعْیُنِ وَمَا تُخْفِی الصُّدُورُ »(3) .
إن تمییز العین الخائنة من العین البریئة من أدق التشخیص والتمییز ، وأدق من ذلک الاطلاع علی ما تخفی الصدور .
بلی ان اللّه‏ تعالی « یَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَی »(4) .

الشهود فی الآخرة :

إن الشهود الذی تحدثنا عنه إنما هو فی دار الدنیا ، حیث یستر اللّه‏ تبارک وتعالی الإنسان بستره الجمیل ، ویخفی من عوراته ما یشاء بلطفهِ ورحمتهِ وتفضّلهِ .
اما فی الدار الآخرة فإن الإنسان یأتی الی الحشر عاریا من کل ستّر ، منکشفا لجمیع الخلائق ، عاجزا عن اخفاء إی شیء یوم تبلی السرائر فما له من قوةٍ ولا ناصر .
انه الیوم الرهیب الذی یکشف سرائر الإنسان التی کانت مستورة عن غیر اللّه‏ تعالی . وها هم الانبیاء والملائکة والناس وجمیع الخلائق یطّلعون علی عوراته التی کان اللّه‏ تبارک وتعالی یسترها علیه فی دار الدنیا .

الشهود الستة فی الدنیا :

ستة من الشهود یخضع الإنسان لحضورهم ورصدهم وکشفهم فی دار الشهود فی الحیاة الدنیا .
وأول هؤلاء الشهود : نفس الإنسان التی بین جنبیهِ ، تحفظ أعماله ، ویلزمه اللّه‏ تعالی بما تشهد علیه ، فإذا جاء یوم القیامة أَمرها اللّه‏ تعالی أن تحاسب نفسها بنفسها .
یقول تعالی : « وَکُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِی عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ کِتَابا یَلْقَاهُ مَنشُورا * اقْرَأْ کِتَابَکَ کَفَی بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسِیبا »(1) .
والشاهد الثانی : هو جوارح الإنسان التی استخدمها الإنسان فی حیاتهِ ، تسجل ما تقوم به من عمل وتضبط ما یصدر عنها بکل دقة ، ثم تشهد علیه یوم البعث بما أمرها به ، ونفّذتهُ .
یقول تعالی : « الْیَومَ نَخْتِمُ عَلَیآ أَفْوَاهِهِمْ ، وَتُکَلِّمُنَآ أَیْدِیِهِمْ ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا کَانُواْ یَکْسِبُونَ »(2) . « یَوْمَ تَشْهَدُ عَلَیْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا کَانُواْ یَعْمَلُونَ »(3) .
والشاهد الثالث : الأرض وکل شیء عصی الانسان به أو علیه ربه أو أطاعه علیه ، یقول تعالی : « إِذَا زُلْزِلَتِ الاْءَرْضُ زِلْزَالَها * وَأَخْرَجَتِ الاْءَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الاْءنسَانُ مَالَهَا * یَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّکَ أَوْحَی لَهَا * یَوْمَئِذٍ یَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتا لِّیُرَواْ أَعْمَالَهُمْ »(4) .
والشاهد الرابع : الملائکة ، وهم یُحصون علی الإنسان کل ما یصدر عنه من قولٍ أو فعل ، خیرا کان أو شرا .
یقول تعالی : « ما یَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدیْهِ رَقِیبٌ عَتِیدٌ »(1) . « وَإِنَّ عَلَیْکُمْ لَحَافِظِینَ * کِرَاما کَاتِبِینَ * یَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ »(2) . « أَمْ تَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَی وَرُسُلُنَا لَدَیْهِمْ یَکْتُبُونَ »(3) .
والشاهد الخامس : الانبیاء وصالح المؤمنین الذین أشهدهم اللّه‏ تعالی علی أعمال الناس فی الدنیا .
یقول تعالی : « یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیدا عَلَیْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِکَ شَهِیدا عَلَی هَؤُلاَآءِ »(4) . « فَکَیْفَ إِذَا جِئْنَا مِن کُلِّ أُمَّةِ بِشَهِیدٍ وَجِئْنَا بِکَ عَلَی هَآؤُلاَآءِ شَهِیدا »(5) .
إن الأنبیاء علیهم‏السلام یشهدون علی أعمال اُممهم فی الدنیا ، ویشهدون علیهم فی الآخرة .
ویتوقف أداء الشهادة فی الآخر علی الشهادة فی الدنیا .
والشاهد السادس : هو اللّه‏ سبحانه وتعالی ، المطّلع علی السرائر والعالم بخائنةِ الأعین وما تخفی الصدور « إِنَّهُ یَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَیَعْلَمُ مَا تَکْتُمُونَ »(6) . « وَسَتُرَدُّونَ إِلَی عَالِمِ الْغَیْبِ وَالشَّهَادَةِ فَیُنَبِّئُکُم بِمَا کُنتُمْ تَعْمَلُونَ »(7) .

الرقابة والمراقبة :

وإذا علم الإنسان برقابة اللّه‏ تعالی له ، ورقابة غیره من الشهود ، وکان یشعر بخضوعهِ لرصد دقیق ، لیس بإمکانه إخفاء شیء عنه ، أصبح مراقبا لنفسه ، انطلاقا من الإیمان بأن اللّه‏ تعالی مطّلع علیه وعلی کل ما یصدر عنه ، وحاضر معه أینما کان ، ولا یخفی علیه من ظاهره وباطنه شیء .
وإنما یغفل الإنسان عن هذه المراقبة لنفسه عندما یشوب الخلل إیمانه برقابة اللّه‏ تعالی وشهوده ، فإذا ما التفتَ الی حضور اللّه‏ وشهادة غیره من الشهود الذین یأذن اللّه‏ تعالی لهم بالإطلاع علیه فإنه سیکون دقیقا فی ضبط أعماله طبقا لما تتطلبه هذه الشهادة .
إذن ، الإیمان برقابة اللّه‏ تعالی من أهم عوامل ( المراقبة ) فی سلوک الإنسان .
وکل انسان یلتزم بمبدأ المراقبة السلوکیة لنفسه بقدر إیمانه برقابة اللّه‏ تعالی له ، ورقابة الشهود ، وبقدر ما یستحضر فی نفسه هذه الرقابة الالهیة .

للشهادة مصداقان :

« وَکَذلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطا لِّتَکُونُوا شُهَدَآءَ عَلی النَّاسِ ، وَیَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیدا »(1) .
للشهادة فی القرآن مصداقان : مصداق فی الدنیا ، ومصداق فی الآخرة .
والذی یتأمل فی آیات القرآن یجد أنّ القرآن یذکر الشهادة فی سیاقین مختلفین تماما .
السیاق الأول : الشهادة فی الدنیا .
یقول تعالی : « وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطا لِّتَکُونُوا شُهَدَآءَ عَلَی النَّاسِ ، وَیَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیدا »(2) . « إِنَّآ أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِیهَا هُدیً وَنُوُر یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِیُّونَ وَالاْءَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن کِتَابِ اللّه‏ِ وَکَانُوا عَلَیْهِ شُهَدَآءَ »(3) . « وَکُنتُ عَلَیْهِمُ شَهِیدا مَّا دُمْتُ فِیهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّیْتَنِی کنتَ أَنتَ الرَّقِیبَ عَلَیْهِمْ »(4) .
ویأتی ذکر الشهادة فی الآخرة فی سیاق آخر ، یختلف تماما عن السیاق السابق .
« فَکَیْفَ إِذَا جِئنَا مِن کُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِیدٍ وَجِئْنَا بِکَ عَلَی هَآؤُلاَآءِ شَهِیدا »(5) . « یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیدا عَلَیْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِکَ شَهِیدا عَلَی هَآؤُلاَآءِ »(1) .
وبالتأمل فی السیاقین نجد أن هذا السیاق یختلف عن السیاق الأول . وکل منهما شهادة ، ولکن معنی الشهادة یختلف فی کل منهما ، کما أن ظرف الشهادة أیضا یختلف فی القسم الأول من الآیات عن القسم الثانی .
وعلیه لا نجد ما یبرّر انحصار الشهادة فی الآخرة ، کما یفهم ذلک من کلمات العلامة الطباطبائی رحمه‏الله فی تفسیر المیزان فی تفسیر قوله تعالی : « وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطا لِّتَکُونُوا شُهَدَآءَ عَلَی النَّاسِ » .
کما لا نجد وجها لما قد یستفاد من کلمات الشهید المحقّق الصدر رحمه‏الله من انحصارها فی الدنیا .
نعم یتضح من خلال مراجعة آیات القرآن : ان الشهداء فی الدنیا هم الشهداء فی الآخرة .
وسوف نبحث عن هذه النقاط إن شاء اللّه‏ من خلال القرآن الکریم فی هذه الدراسة .

الشهادة فی الدنیا

الشهادة حضور ومراقبة وشهادة :

الشهادة فی الدنیا حضور الشهید فی ساحة المجتمع ، ومراقبة أفکار الناس ، وسلوکهم من حیث الاستقامة والانحراف عن الفطرة التی واثق الإنسان بها ربه ، سبحانه وتعالی ، والتذکیر ، والشهادة کلما وجد انحرافا للإنسان عن هذا الخط .

موقع الشهید « الموقع الوسط » :

والموقع الذی یؤهل الشهید ، لیقوم بهذه الرسالة هو « الموقع الوسط » . فإن « الموقع الوسط » بین الاتجاهات الحضاریة المختلفة المتطرفة المتعاکسة یمکّن الإنسان من رؤیة ودرک هذه الانحرافات ومراقبتها ، والتنبیه علیها ، والتذکیر بها . والقرآن الکریم صریح فی « أن الموقع الوسط » للشهید هو الذی یؤهّله لهذه الشهادة .
یقول تعالی : « وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطا لِّتَکُونُوا شُهَدَآءَ عَلَی النَّاسِ ، وَیَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیدا »(1) .
وترتیب الشهادة فی الآیة علی الموقع الوسط واضح ، لا یحتاج الی توضیح .

الإسلام هو الموقع الوسط :

والموقع الوسط هو الموقع الفکری والحضاری المعتدل ، المتوسط بین الاتجاهات الفکریة والحضاریة المختلفة .
وهذا الموقع هو بالضرورة ( الاسلام ) الذی یضع الإنسان فی موقع وسط ومعتدل بین الاتجاهات المتطرفة المختلفة والنابعة فی الغالب من جهل الإنسان وانفعالاته ، وردود الافعال لدیه ، وضغوط البیئة والأهواء .
فإنّ هذا الدین وسط بین النزعة الفردیة القاضیة بتحکیم هذه النزعة علی المجتمع البشری ، والنزعة الاجتماعیة القاضیة بإقصاء النزعة الفردیة تماما فی الحیاة الاجتماعیة .
ووسط بین إرسال الغرائز وإطلاق العنان لها بین کبحها وکبتها ، وهذا الاتجاه هو تعدیل الغریزة وتلطیفها وتوجیهها .
ووسط بین الاستغراق فی الدنیا والعزوف عن الآخرة وبین رهبانیة ومقاطعة الدنیا .
« وَابتغِ فیما آتاک اللّه‏ الدَار الآخرة ولا تنسَ نصیبک من الدنیا »(2) .
« رَبَّنَا آتِنَا فِی الدُّنْیَا حَسَنَة وَفِی الآخَرة حَسَنَة »(3) .
ووسط بین الاسراف والتقتیر .
« وَلاَ تَجْعَلْ یَدَکَ مَغْلُولَةً إِلَی عُنُقِکَ وَلاَ تَبْسُطْهَا کُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوما مَّحْسُورا »(1) .

تحدید « الموقع الوسط » بالوحی :

لقد کان الإنسان یعیش فترة من حیاته هذا الموقع الوسط ، بهدایة الفطرة ، قبل أن تتعقد حیاته علی وجه الأرض .
فلمّا تعقدت حیاة الإنسان علی وجه الأرض ، لم تعد الفطرة کافیة لتحدید الموقع الوسط ، وکان لابد أن یتدخل الوحی لتحدید الموقع الوسط ، وتوجیه الإنسان إلیه . إن الإنسان یعیش وسط تیارات متعاکسه وقویة ومؤثرة من ضغوط البیئة ، والوراثة ونزوات الغریزة والانفعالات النفسیة وردود الافعال .
وهذه التیارات تؤثر بالتأکید علی تشخیص الإنسان وتقدیره وحکمه وموقفه .
ومن المتعذر علی الإنسان فی مثل هذه الحالة أن یتمکن من تشخیص الموقع الوسط فکریا ، وحضاریا ، وتشریعیا دون تدخل الوحی .
والآیة الکریمة واضحة فی دور الوحی فی وضع الإنسان فی هذا الموقع المعتدل .
« وَکَذَلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطا »(2) .

الموقع الوسط یمکّن الشهید من الشهود :

المیزة الاُولی من خصائص الموقع الوسط هی ان هذا الموقع یمکّن الشهید من شهادة الانحرافات والاخطاء فی سلوک الإنسان ومراقبتها ، وبالتالی یمکّنه من التنبیه علیها والتذکیر بها . فإن الإنسان عندما یکون فی موقع حضاری وفکری وسط ، یهیمن علی کل الاطراف ویتمکن من إدراک وشهود کل الانحرافات والتطرفات المتعاکسة فی سلوک الإنسان .
فلا یکاد یشخّص الإنسان الانحراف انحرافا إلاّ إذا کان فی موضع الاستقامة ، ولا یکاد یشخص الخطأ خطأً إلاّ إذا کان فی موضع صحیح .
فالشهید إذن یشهد علی الناس أخطاءهم وانحرافاتهم عن خط الفطرة « لِّتَکُونُوا شُهَدَآءَ عَلَی النَّاسِ » .
وهذا هو معنی « الشهادة علی الناس » فیما أری واللّه‏ تعالی أعلم بما یرید وبما جاء فی کتابه .

مرحلتا « التحمّل » و« الأداء » فی الشهادة :

وللشهادة بالضرورة مرحلتان : مرحلة التحمّل والتقاط المشهد ، ومرحلة الأداء .
والمرحلة الثانیة من متطلبات المرحلة الاُولی ومسؤولیاتها . فلو شهد الشاهد مشهدا من مشاهد الاجرام ، وتحمل الشهادة لزمه أن یؤدّی هذه الشهادة ویَحْرُم علیه کتمانها .
یقول تعالی : « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن کَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّه‏ِ »(1) .
أَما مرحلة التحمل فقد تحدثنا عنها ، فإنّ الشهید بما مکّنه اللّه‏ تعالی ورزقه من الموقع الوسط ، یشهد علی الناس أَخطاءهم وانحرافاتهم عن خط الفطرةِ ، وهی مرحلة « تحمل الشهادة » .
وأمّا مرحلة « الأداء » فتأتی عقیب مرحلة التحمّل ، وهی مسؤولیة یتحمّلها الشهید ، حتی یؤدیها ، وأداؤها یکون الی الناس ، کما أن شهادته تکون علی الناس أنفسهم . والأداء هنا یتم بالتذکیر ، والتوجیه ، والدعوة ، والأمر بالمعروف ، والنهی عن المنکر . والتذکیر فی الغالب یتضمّن تنبیه وإثارة الفطرة والعقول عندما تتراکم علیها أنقاض الجاهلیة والانحراف .
وهذا هو معنی العودة الی الذات .
وقد کان الإمام الحسین علیه‏السلام یقول للناس فی کربلاء : « عودوا الی أنفسکم ، وکونوا أحرارا فی دنیاکم »(1) . أی : تحرّروا من أسر الهوی والطاغوت .
فلا یصیب الإنسان فساد وشر أکثر من أن ینفصل عن نفسهِ ، وینحجب عن قیمه وفطرته التی خلعها اللّه‏ تعالی علیه .
یقول أمیر المؤمنین علیه‏السلام کما فی روایة الرضی فی ( نهج البلاغة ) فی صفة خروج الإمام المهدی ( عج ) : « ویثیر لهم دفائن العقول » .
وکأنما الإمام علیه‏السلام یرید أن یقول : إنّ الإمام الحجة علیه‏السلام لا یأتی بشیء جدید ، لیضیفه الی عقول الناس ، لم یکن لهم به عهد من قبل ، وإنّما یثیر لهم دفائن العقول ، ویستخرج لهم من عقولهم ما کان قد حجبته أنقاض الجاهلیة من قبل .

مسؤولیة الأداء :

ومسؤولیة أداء الشهادة مسؤولیة شاقّة وعسیرة . وکان الأنبیاء علیهم‏السلام یشفقون علی أنفسهم من هذه المسؤولیة . ولقد خاطب اللّه‏ تعالی رسوله صلی‏الله‏علیه‏و‏آله بهذه الکلمة المؤثرة : « طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَیْکَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَیآ »(2) .
وقد کان رسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله یشفق من هذه المسؤولیة ، حتی کانت تسلب من نفسه الراحة ومن شفتیه الابتسامة .
أرأیت من یری أعمی قد أشرف علی السقوط فی بئر عمیق ، هل یقرّ له قرار ؟ حتی ینبهه الی الخطر الذی یشرف علیه ، ویحذّره ویستخدم کل الوسائل الممکنه لتنبیهه وتحذیره من السقوط .
فکیف إذا کان الشهید یری البشریة کلها علی حافة السقوط ، کیف یقر له قرار دون أن ینقذ هؤلاء جمیعا من خطر السقوط .
وکان رسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله یقول : « شیّبتنی سورة هود » . عندما قیل له صلی‏الله‏علیه‏و‏آله : « لقد أسرع الیک الشیب یا رسول اللّه‏ » .
وسورة هود تضع رسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله أمام تاریخ حافل برفض الناس وعنادهم ، ومکابرتهم ، لدعوة الأنبیاء علیهم‏السلام وحرض الأنبیاء علیهم‏السلام علی انقاذهم ، ثم تخاطبه السورة بعد جولة طویلة من رحلة المعاناة بهذا الخطاب العسیر :
« فَاسْتَقِمْ کَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَکَ »(1) .
وکل شهید یتحمّل من مسؤولیة الدعوة والأمر بالمعروف بقدر ما یتحمّل من الشهادة ، وبقدر ما یمکّنه اللّه‏ تعالی من تشخیص الانحرافات والأخطاء .
وحظّ الشهداء فی ذلک یختلف ، ومسؤولیتهم فی الأداء کذلک تختلف . والشهید هنا ینهض فی المجتمع البشری بدور ( المذّکِر ) المسؤول . وهذه هی الرسالة الاُولی للشهید فی حیاة الناس .

الموقع الوسط یجعل من الشهید قدوة :

المیزة الثانیة من خصائص « الموقع الوسط » ، أنّها تجعل من الشهید « قدوةً » ، ومیزانا ، ومعیارا ، یستطیع الناس أن یقیسوا به أنفسهم ، ویصحّحوا به أخطاءهم ، ویقوّموا به انحرافاتهم .
وهذه هی الرسالة الثانیة للشهید فی حیاة الناس .
فإنّ ( الشهید ) بما یحتلّ فی الحیاة من الموقع الوسط ، والاعتدال ، والاستقامة ، یصح أن یکون مقیاسا ومیزانا یقیس به الآخرون أنفسهم ، ویعرفون به الزیادة والنقصان فی أفکارهم وسلوکهم . فإن الزیادة علی الموقع الوسط انحراف ، کما أنّ النقیصة کذلک .
أَرأیت الوحدات القیاسیة التی نقیس بها الأشیاء ونعرف وزنها وأبعادها ، لنتمکن بذلک من سدّ النقص وإزالة الزائد . فالشهید هنا قدوة ، وأُسوة ، ومیزان للناس بما رزقه اللّه‏ تعالی من الموقع الوسط . کما أنّ الشهید فیما سبق معلّم للناس .
والقدوة نحو من أنحاء الشهادة . وإذا أمعنّا النظر فی معنی القدوة ودورها ، وجدنا کل قدوة یشهد علی الناس باخطائهم وانحرافاتهم ، وما فیهم من میل وزیغ عن الحق ، کما أنّ الوحدة القیاسیة تشهد علی الکمیة التی تقاس بها بالزیادة والنقیصة . وهذا هو دور تحمّل الشهادة ، وهو معنیً دقیق یحوج إلی امعان نظر وتأمل . وللقدوة دور آخر فی أداء الشهادة ، کما کان لها دور فی تحمل الشهادة . فإن القدوة کما یشهد علی الناس باخطائهم وانحرافاتهم ـ وهذا هو دور تحمل الشهادة ـ کذلک ینبّههم بسلوکه وأفکاره الی ضرورة التعدیل والتصحیح لافکارهم وسلوکهم .
والرسالة الثالثة للشهید فی حیاة الناس هی استحفاظ الکتاب والشریعة من الانحراف . وهذا هو دور أداء الشهادة .

لئلاّ یکون للناس علی اللّه‏ حجّة :

وفیما قدّمناه من توضیح وشرح لدور الشهداء نجد أنّ الأنبیاء یقطعون فی الدنیا کل حجّة للناس علی اللّه‏ تعالی .
فان الناس یمکن أن یتشبّثوا یوم القیامة بحجّتین . وارسال الرسل والأنبیاء یقطّع علی الناس تلک الحجّتین .
فلهم أن یحتجّوا علی اللّه‏ بأنّهم کانوا یجهلون هذا الهدی والمنهاج الربانی فی حیاتهم ، ولم یصلهم من اللّه‏ تعالی من یدعوهم ویذکّرهم به . ولهم أن یحتجّوا ثانیا بأنّ هذه الدعوة وهذا المنهاج کان أکثر مما یطیقون ، وإرسال الأنبیاء من نوع الإنسان ، ولیس من نوع الملائکة یقطع علی الناس کلا العذرین ، ویقطع کلا الحجتین .
یقول تعالی : « رُّسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلاَّ یَکُونَ لِلنَّاسِ علی اللّه‏ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ، وَکَانَ اللّه‏ُ عَزِیزا حَکِیما »(1) .

شرح و تفصیل لرسالة الشهداء فی حیاة الناس:

وفیما یلی نتحدّث عن المهام الأساسیة الثلاثة للشهید وهی :
1 ـ التذکیر
2 ـ القدوة
3 ـ استحفاظ کتاب اللّه‏ وشریعته عن التحریف

التذکیر :

الرسالة الاُولی للشهید التذکیر . یقول تعالی : « إِنَّ هَذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَی رِبِّهِ سَبِیلاً »(2) .
رسالة الأنبیاء : « أَن یدعو الناس الی العودة الی أنفسهم » ، کما کان الإمام الحسین علیه‏السلام یخاطب الناس فی کربلاء « عودوا إلی أنفسکم »(3) .
وأَنفسهم هی فطرتهم وعقولهم وضمائرهم التی یسلخها عنهم الهوی والطاغوت والشیطان .
إنّ فی نفس الإنسان کنوزا من القیم والمعرفة والیقین والاستجابة للّه‏ ، ورصیدا کبیرا من الفطرة الصافیة النقیة ، ومهمة الشهداء الوصول الی هذه الکنوز : إنّ هذه الاُمّة التی انطلقت من قلب الصحراء فی جزیرة العرب ، واستطاعت أن تهزم أکبر إِمبراطوریتین فی التاریخ فی مدّةٍ یسیرة فی عمر التاریخ . . . لم تتمکّن من انجاز هذه الفتوحات بقوةٍ عسکریة نظامیة متفوّقة ولا بالمال ، وإن کان لابدّ لهذه الدعوة من هذا وذاک معا ، ولکن الاُمة الشاهدة التی انطلقت من قلب الصحراء استطاعت أَن تخاطب ضمائر الناس ، وفطرتهم التی صدها عنهم الطاغوت .
وفتحت هذه الاُمة الشاهدة الطریق الی فطرة الناس وضمائرهم التی حاول الطاغوت فی هاتین الامبراطوریتین أَن یغمرهما ویهدمهما ، واستجاب الناس فی کل من هاتین الامبراطوریتین الی دعوة هؤلاء الفاتحین الذین جاؤوهم برسالة العودة الی أنفسهم .
إِنّ لنا نحن الدعاة الی اللّه‏ رصیدا من الفطرة فی أَعماق نفوس الناس ، ومهمّتنا الوصول الی هذه الأعماق ، فإذا استطعنا أَن نصل الی کنوز الفطرة ، فإن الناس یستجیبون لدعوة اللّه‏ أفواجا وأفرادا .
ونحن لا ننفی ولا ننکر أنّ الفطرة والضمیر قد یجفّان وینضب معینهما تماما ، وقد یغمرهما الهوی والطاغوت والشیطان تماما ، فتنعدم الفطرة ، وینعدم الضمیر ، کما حدث ذلک فی قوم نوح علیه‏السلام : « وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَی الاْءَرْضِ مِّن الْکَافِریِن دَیَّارا * إِنَّکَ إِن تَذْرْهُمْ یُضِلُّوا عِبَادَکَ وَلاَ یلِدُوآاْ إِلاَّ فاجِرا کَفَّارا »(1) .
ولکن اللّه‏ تعالی قد أوَدع فی فطرةِ الإنسان وضمیره وعقله من القوة ما یمکّنه من المقاومة أمام ضغوط الهوی والشیطان والطاغوت ردحا طویلاً من الزمن ، فإذا تمکّن الدعاة الی اللّه‏ أن یصلوا الی نفوس الناس ، واهتدوا الطریق الی فطرتهم وضمائرهم برفق ولین ، فإنّ اللّه‏ تعالی یفتح علیهم من قلوبهم ما أغلقه الهوی والطاغوت .

بین (المیثاق) و(الشهادة) :

ما هی الرسالة التی یحملها الشهداء والاُمة الشاهدة الی فطرة الناس ؟ إنّ هذه الرسالة هی العود الی « المیثاق » .
إنّ فی فطرة کل إنسان عقدا ومیثاقا مع اللّه‏ تعالی ، والتزاما بالعبودیة والطاعة . ولا یشذ إنسان عن هذا المیثاق الفطری . وقد شرحنا هذا المیثاق فی رسالة مستقلة فی تفسیر قوله تعالی : « وَاذ أَخذ ربّکَ من بنی آدم من ظهورهِم ذریتهم وأَشهدهم علی أَنفسهم أَلست بربکم قالوا بلی »(1) .
وکل إنسان یرتبط فی عمق فطرته بهذا العهد والمیثاق مع اللّه‏ تعالی عن وعی والتزام وتعهد . إلاّ أنّ العوامل الضاغطة علی الإنسان تتمکن من إخماد جذوة الفطرة وإضعافها وطمرها أحیانا ، فتختفی الفطرة من حیاة الإنسان ، وینسی الإنسان هذا المیثاق ویغفل أنـّه شهد علی نفسهِ بین یدی اللّه‏ بهذا المیثاق ، « وأَشهدهم علی أَنفسهم » . فیأتی دور الشهید والاُمّة الشاهدة فی إِعادة الناس الی میثاق الفطرة ، وتنبیههم الی هذا المیثاق الذی عقدوه مع اللّه‏ تعالی بوعی الفطرة ثم نسوه وأَهملوه .
والی هذه العلاقة بین الشهادة والمیثاق یشیر الإمام علی ابن أبی طالب علیه‏السلام : « فبعث اللّه‏ فیهم رسله وواتر انبیاءه لیستأدوهم میثاق فطرته ، ویذکّروهم منسی نعمته ، ویحتجّوا علیهم بالتبلیغ ، ویثیروا لهم دفائن عقولهم »(2) .
وإنما یتمکّن الشهداء من معرفة فطرة الناس ، وما أودع اللّه‏ تعالی فی نفوسهم من الوعی الفطری العمیق بمقتضی الموقع الذی یحلّون فیه ، فإنّ هذا الموقع الوسط یمکّنهم من شهود الفطرة ، وما أَودع اللّه‏ تعالی فیها من الوعی الفطری ومیثاق الطاعة والعبودیة للّه‏ تعالی ، وشهود الانحراف الذی طرأ علی هذه الفطرة بعد وعی وعهد ومیثاق .
وهذا الشهود یحمّلهم ـ کما ذکرنا ـ مسؤولیة تنبیه الناس وتذکیرهم بهذا الوعی وهذا المیثاق ، إِنّ العودة الی اللّه‏ تعالی حاجة حقیقیة فی نفس کل إنسان ، کما أنّ الأکل والشرب والنوم حاجة فی الإنسان ، فلا یحتاج الإنسان إلی إِکراه وضغط لیأکل أو یشرب أو ینام بقدر حاجته الطبیعیة ، ولکن قد یحتاج الإنسان الی مَن ینبهّه بموعد الأکل والشرب والنوم کذلک ( الدِین ) والعودة الی اللّه‏ حاجة فطریة مرکوزة فی عمق النفس ، فلا یحتاج الإنسان لکی یعود إلی الفطرة إلی إکراه أو ضغط « لاَآ إِکْرَاهَ فِی الدِّینِ قَد تَّبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغیِّ »(1) .
ولکن الإنسان یحتاج إلی من ینبهّهُ ویذکّرهُ باللّه‏ تعالی :
وهذه هی المهمة الاُولی للشهید والاُمة الشاهدة فی التأریخ .

التذکیر ورسالة الأنبیاء فی التأریخ :

إِنّ القرآن الکریم صریح فی أَنّ رسالة الأنبیاء علیهم‏السلام فی التاریخ هی التذکیر أوّلاً ، ثمّ بعد ذلک التعلیم ، وإنّ مهمة التذکیر قبل التعلیم .
وقد ورد التصریح بهذه الحقیقة فی سورتین من أوائل ما اُنزل علی رسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله من القرآن بعد تکلیفهِ بالرسالة وهما سورة « المدّثر » و« المزّمل » .
یقول تعالی : « کَلاَّآ إِنَّهُ تَذْکِرةٌ * فَمَن شَآءَ ذَکَرهُ »(2) . ویقول تعالی : « إِنَّ هَذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَی رَبِّهِ سَبِیلاً »(3) . ویقول تعالی : « إِنْ هُوَ إلاَّ ذِکْرَی لِلْعَالَمِینَ »(4) . « وَجَآءَکَ فِی هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِکْرَی لِلْمُؤْمِنِینَ »(1) .
ویأمر اللّه‏ نبیه صلی‏الله‏علیه‏و‏آله بالتذکیر ، ویصرّح له بأنه مذکّر قبل کل شیء ، بل یذکّره اللّه‏ تعالی بأنّ مهمّتهُ الوحیدة هی التذکیر ، وسائر المهام التی ینهض بها وتجب علیه إنّما هی من شؤون التذکیر .
وهذه الحقیقة تتّضح فی الحصرِ الوارد « فَذَکِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَکِّرٌ »(2) ، والقرآن الکریم « ذِکر » أکثر من أیّ شیءٍ آخر ، أو إنّه ذکر فقط ، والمسائل الاُخری التی یحفل بها کتاب اللّه‏ من متطلّبات الذّکر ومسلتزماته .
یقول تعالی : « إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِکْرٌ وَقُرءَانٌ مُّبِینٌ »(3) . « هَذَا ذِکْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِینَ لَحُسْنَ مَآبٍ »(4) . « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »(5) . « وَهَذَا ذِکْرٌ مُّبَارَکٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنکِرُونَ »(6) .
ومهمّة القرآن الکریم ورسالته هی التذکیر وتیسیر التذکیر :
« وَلَقَدْ یَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّکْرِ فَهَلْ من مُّدَّکِرٍ »(7) .
« وَإِنَّهُ لَتَذْکِرَةٌ لِّلْمُتَّقِینَ »(8) .
« وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِی هَذَا الْقُرْءَانَ لِیَذَّکَّرُواْ »(9) .
ویقول اللّه‏ تعالی لنبیه الکریم إِنه لم ینزل علیه القرآن لیشقی بجحود الناس وعنادهم ، ولجاجهم ، وإنما بعثه بالقرآن لیُذکّرهم به فقط ، وماعلیه بعد ذلک من أمرهم استجابوا أم لم یستجیبوا .
« طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَیْکَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَیآ * إِلاَّ تَذْکِرَةً لِّمَن یَخْشَی »(1) .

الاستجابة والانغلاق علی التذکیر :

وللناس تجاه التذکیر حالتان :
حالة الاستجابة والانفتاح . وحالة الانغلاق والصدود .
وفیما یلی نتحدث عن هاتین الحالتین :

أوّلاً : حالة الاستجابة والانفتاح :

إِنَّ من الناس من یستجیب للذکری من دون صدود وإعراض ، ویفتح قلبه علی الأنبیاء والشهداء ، ویتلقّی الذکری ، ویتفاعل معها .
وهؤلاء هم أصحاب القلوب الواعیة الذین لم یتمکّن الشیطان من قلوبهم ولم یصدّهم عن ذکر اللّه‏ ، ولم تنغلق قلوبهم عن ذکر اللّه‏ ، ولم یتمادوا الی الإعراض عن اللّه‏ .
وتعبیر القرآن عن الذین یستجیبون والذین لا یستجیبون للذکری دقیق وحریّ بالتأمل والتفکیر .
یقول تعالی عن الذین یستجیبون للذکری : « تَبْصِرَةً وَذِکْرَی لِکُلِّ عَبْدٍ مُّنِیبٍ »(2) .
والإنابة هی العودة . وکل عودة تتضمّن بعدا وغفلة ، ولکن عندما یکون البعد والغفلة والتخلف عن الاستجابة والطاعة من غیر عمد ولا صدود ولا لجاج فإِنّ صاحبه یعود بالذکری سریعا ، ویستجیب .
یقول تعالی : « لِنَجْعَلَهَا لَکُمْ تَذْکِرَةً ، وَتَعِیهَا أُذُنٌ وَاعِیَةٌ »(3) .
وتعبیر القرآن دقیق « أُذنٌ واعیة » ، أمّا الآذان الصماء فلا تعی ولا تدرک ، ولا تنفعها التذکرة ، وکیفما تکون الذکری ، ومهما کان المذکر .
یقول تعالی : « إِنَّ فِی ذَلِکَ لَذِکْرَی لِمَن کَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَی السَّمْعَ وَهُوَ شَهِیدٌ »(1) .
ذکری لمن کان له قلب ، أمّا من مسخ قلبه مسخا ، فلا تنفعه الذکری . وذکری لمن القی السمع .أمّا من صدّ سمعه ، فلا تنفعه الذکری . وذکری لمن کان شهیدا حاضرا ، أمّا من کان غائبا بروحه وعقله وحاضرا بجسمهِ فقط فلن تنفعه الذکری .
والشهید هنا من الشهود والحضور . وهو الشهید المتذکّر فی مقابل الشهید المذکّر یقول تعالی : « وَذَکِّرْ فَإِنَّ الذِّکْرَی تَنفَعُ الْمُؤْمِنِینَ »(2) .
والمؤمنون فی مقابل أَهل الجحود والکفر المعرضون عن اللّه‏ .
وهؤلاء المؤمنون یستجیبون للذکری وتطمئنّ قلوبهم بذکر اللّه‏ تعالی .
« الَّذِینَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِکْرِ اللّه‏ِ ، أَلاَ بِذِکْرِ اللّه‏ِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ »(3) .
ثانیا : حالة الانغلاق والصدود :
وفی مقابل حالة الانفتاح والاستجابة والإنابة نواجه حالة مَرَضیّة هی حالة الانغلاق والجحود والصدود والإعراض عن اللّه‏ تعالی . وهؤلاء لا تنفعهم الذکری .
یقول تعالی عن هذه الطائفة : « وِإِذَا ذُکِّرُواْ لاَ یَذْکُرُونَ »(4) .
ویواجهون الذکری والتذکیر بالإعراض والصدود .
یقول تعالی : « وَمَا یَأْتِیهِمْ مِّن ذِکْرٍ مِّن الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ کَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِینَ »(5) .
« فَمَا لِهُمْ عَنِ التَّذْکِرِةِ مُعْرِضِینَ »(6) .
وهؤلاء المعرضون یعاقبهم اللّه‏ تعالی بأشد العقاب ، ویجعل معیشتهم فی الدنیا ضنکا ، ویحشرهم یوم القیامة عمیانا لا یرون شیئا ، کما تعاموا فی الدنیا عن ذکر اللّه‏ تعالی .
یقول تعالی : « وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ مَعِیشَةً ضَنکا وَنَحْشُرُهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ أَعْمی »(1) .

الإعراض عن اللّه‏ عن علم ومن غیر علم :

وحالات الإِعراض عن اللّه‏ تعالی علی طائفتین :
فمن حالات الإِعراض والضلال ، واتّباع الباطل ، والهوی ما یکون من دون علم ، ولا هدیً .
یقول تعالی : « بَلِ اتَّبَعَ الَّذِینَ ظَلَمُوآاْ أَهْوَآءَهُم بِغَیْرِ عِلْمٍ »(2) .
وهذا نوع من الإعراض عن اللّه‏ واتباع الهوی یتمّ من دون علم ، ومن دون هدیً .
والحالة الاُخری من الإعراض أسوأ من هذه الحالة ، وأَبعد عن اللّه‏ ، وأَکثر انغلاقا وصدودا عن ذکر اللّه‏ ، هی التی یعرض فیها صاحبها عن اللّه‏ بعد أن جاءهُ العلم بغیا وظلما ، وبعد أن استیقنتها انفسهم . یقول تعالی : « وَمَا تَفَرَّقُوآاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیَا بَیْنَهُمْ »(3) ، ویقول تعالی : « أَفَرَأیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّه‏ُ عَلَی عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَی سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَی بَصَرِهِ غشَاوَةً فَمَن یَهْدِیه مِن بَعْدِ اللّه‏ِ أَفَلاَ تَذَکَّرُونَ »(4) . ویقول تعالی : « وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَآ أَنْفُسُهُمْ »(5) .
عقوبة الإعراض عن ذکر اللّه‏ :
وعقوبة هؤلاء من سنخ الجریمة . إِنّ الجریمة هی الإعراض عن اللّه‏ ، والتصامم ، والتعامی عن ذکر اللّه‏ وآیاته ، والعقوبة هی الإضلال والختم والإغفال .
یقول تعالی : « وَأَضَلَّهُ عَلَی عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَی سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَی بَصَرِهِ غِشَاوَةً » .
یقول تعالی : « وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِکْرِنَا ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ، وَکَانَ أَمْرُهُ فُرُطا »(1) .
والإغفال عقوبة من یتغافل عن ذکر اللّه‏ ویتّبع هواه ، وهی عقوبة تطابق الجریمة . و( الفرط ) من الإفراط ، وهو الخروج والتجاوز عن حدود اللّه‏ تعالی ، وحقوقه ، کحبات القلادة التی تنفرط ، وتتناثر ، وتخرج عن مواقعها ونظمها ، کذلک الإنسان عندما یتّبع هواه ینفرط أمرهُ کله : عقله ، وضمیره ، وقلبه ، ووعیه ، ودینه ، ویختل تعادله وتوازنه .
ومن عقوبة الذین یعرضون عن ذکر اللّه‏ ، ویتعامون عن آیات اللّه‏ أن یحشرهم اللّه‏ یوم القیامة عمیانا ، کما تعاموا فی الدنیا من آیات اللّه‏ ، ویجعل معیشتهم فی الدنیا ضنکا ، وهما عقوبتان من سنخ الجریمة .
یقول تعالی : « وَمَن أَعْرَضَ عَن ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ مَعِیشَةً ضَنکا وَنَحْشُرُهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ أَعْمَی * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِیآ أَعْمی وَقَدْ کُنتُ بَصِیرا * قَالَ کَذَلِکَ أَتَتْکَ ءَایَاتُنَا فَنسِیتَهَا وَکَذلِکَ الْیَوْمَ تُنَسی * وَکَذَلِکَ نَجْزِی مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ یُؤْمِن بِآیَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاْءَخرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَیآ »(2) .
ومن عقوبة المعرضین عن ذکر اللّه‏ ، أَن یقیّض اللّه‏ تعالی لهم شیطانا ویجعله قرینا لهم ، ذلک انّهم مکّنوا الشیطان من أَنفسهم ، فتلک أیضا عقوبة من سنخ الجریمة التی ارتکبوها .
یقول تعالی : « وَمَن یَعْشُ عَن ذِکْرِ الرَّحْمَنِ نُقَیِّضْ لَهُ شَیْطَانا فَهُوَ لَهُ قَرِینٌ »(3) .
والذی یضله اللّه‏ تعالی ویغفل قلبه فلا هادی له « وَمَن یُضْلِلِ اللّه‏ُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ »(4) .
وهذا الضلال الذی یلزم الانسان إجبارا ، ولا علاج له ، عقوبة وجریمة ، ولیس بجریمة فقط ولکن العقوبة هنا من سنخ الجریمة .
ولأنّ هذه العقوبة إلزامیة ، ولا علاج لها ، یأمر اللّه‏ تعالی نبیّه بالإعراض عنهم .
یقول تعالی : « فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّی عَن ذِکْرِنَا وَلَمْ یُرِدْ إِلاَّ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا »(1) .
والالزام فی العقوبة لا ینافی الاختیار . فإن هذه العقوبة نتیجة لما اختاروا من العناد والشقاق ، والنفاق بعد أن أتمّ اللّه‏ تعالی لهم الحجّة وجاءتهم البینات .

عوامل الإعراض والصدود :

نذکر منها عاملین یذکرهما القرآن الکریم :
الأول : الشیطان .
یقول تعالی : « فَأَنسَاهُ الشَّیْطَانُ ذِکْرَ رَبِّهِ »(2) . « اسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمُ الشَّیْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِکْرَ اللّه‏ِ »(3) .
والشیطان یصدّ عن ذکر اللّه‏ « یَصُدَّکُمُ عَن ذِکْرِ اللّه‏ِ »(4) .
والثانی : الانغماس ، والاستغراق فی متاع الحیاة الدنیا ولذّاتها .
« وَلَکِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّی نَسُواْ الذِّکْرَ وَکَانُواْ قَوْمَا بُورا »(5) .
وساعات الیسر والرفاه تنسی الإنسان ذکر اللّه‏ ، وبالعکس فإنّ ساعات الشدّة والعسر تذکّر الإنسان باللّه‏ تعالی .
یقول تعالی : « وَإِذْ قَالَ مُوسَی لِقُومِهِ اذْکُرُواْ نِعْمَةَ اللّه‏ِ عَلَیْکُمْ إِذْ أَنجَاکُمْ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ »(6) . « وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْن بِالسِّنِینَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ یَذَّکَّرُونَ »(7) .

اُسلوب التذکیر :

مفتاح قلوب الناس اثنان : الصدق والرفق .
والکلام عندما یصدر من الإنسان عن صدق ، ویکون صاحبه مؤمنا بما یقول ، وعاملاً بما یقول ، فإن لکلامه حینئذٍ فی النفوس تأثیر وفعل ما لیس لغیره . فإنّ الکلام عندئذٍ یصدر من عمق النفس ، ویحمل معه قناعة صاحبه ، وإیمانه ، وتفاعله معه . والکلام عندما یحمل معه قناعة صاحبه وإیمانه وتفاعله معه ، یکون له من التأثیر ما لیس للکلام الذی یصدر عن سطح ضحل من سطوح النفس ، ودون أن یکون له عمق وامتداد فی نفس الإنسان .
ولأمرٍ مّا ینهانا اللّه‏ تعالی أن نقول ما لا نفعل :
یقول تعالی : « یا أیّها الَّذِینَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفُعَلُونَ * کَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّه‏ِ أنَ تَقُولُوَاْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ »(1) .
و( الرفق ) المفتاح الآخر من مفاتیح النفس . والذین آتاهم اللّه‏ تعالی مفتاح الرفق یحسنون النفوذ بالتذکیر والموعظة الی القلوب ، وتلین لهم القلوب الصعبة ، وتستجیب لهم القلوب النافرة .
ومهمّة الوعظ ترقیق القلوب ، فإذا رقّت القلوب استجابت للتذکیر ، وانفتحت علی ذکر اللّه‏ ، وأقبلت علی اللّه‏ تعالی . أمّا عندما تعشو القلوب فلا تستطیع الذکری أن تنفذ الیها .
فلابدّ للمذکّرین باللّه‏ ، والدعاة الی اللّه‏ لکی یهتدوا الی قلوب الناس ، أن یرفقوا بقلوب الناس ، ویتخیّروا من أسالیب الوعظ والتذکیر أرقّها وأکثرها لینا ورفقا ، ویتجنّبوا الشدّة والقسوة فی الکلام ، فإنّ القلوب تستجیب للرفق ، وتصد عن الشدة . ولهذا السبب یجب أن لا نحمّل الناس فی الوعظ والتذکیر ما لا یتحمّلون وما لا یعرفون .
وعن رسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله : « إنّا أُمرنا معاشر الأنبیاء أَن نکلّم الناس بقدر عقولهم . أمرنی ربی بمداراة الناس ، کما أمرنا بإقامة الفرائض »(1) .
یقول الإمام الصادق علیه‏السلام : « خالطوا الناس بما یعرفون ، ودعوهم ممّا ینکرون »(2) .
وعن الإمام الرضا علیه‏السلام لیونس رحمه‏الله : « یا یونس حدّث الناس بما یعرفون ، وأترکهم ممّا لا یعرفون »(3) .
ومن الرفق : الاعتدال فی الترغیب والترهیب ، والخوف والرجاء .
عن أبی جعفر الباقر علیه‏السلام : « ألا أخبرکم بالفقیه حقّا : من لم یقنّط الناس من رحمة اللّه‏ ، ومن لم یؤمّنهم من عذاب اللّه‏ ، ولم یؤیّسهم من روح اللّه‏ ، ولم یرخّص فی المعاصی »(4) .

الرفق والعنف فی الإسلام :

إنّ الرفق والعنف وجهان لحرکة الدعوة علی وجه الأرض ، ومن دون أن یقترن هذان الوجهان لا تتمکّن هذه الدعوة أن تشقّ طریقها الی قلوب الناس علی وجه الأرض عبر العقبات والعوائق التی یزرعها ویضعها الطاغوت أمام حرکة الدعوة .
والوجه الأول لهذه الحرکة الرفق واللین فی دعوة الناس الی اللّه‏ تعالی ، تذکیرهم باللّه‏ والیوم الآخر .
« ادْعُ إِلَی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ »(5) . « اذْهَبَآ إِلَی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّیِّنا لَّعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشَی »(6) . « وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَکُمْ أَعْمَالُکُمُ سَلاَمٌ عَلَیْکُمْ لاَ نَبْتَغِی الْجَاهِلِینَ »(7) .
« وَلاَ تُجَادِلُوآاْ أَهْلَ الْکِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِی أُنْزِلَ إِلَیْنَا وَأُنزِلَ إِلَیْکُمْ وَإِلَهُنَا وَإَلهُکُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »(1) . « وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَی اللّه‏ِ وَعَمِلَ صَالِحا وَقَالَ إِنَّنِی مِنَ الْمُسْلِمِینَ * وَلاَ تَسْتَوِی الْحَسَنَةُ ولاَ السَّیِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَبَیْنَهُ عَدَاوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ »(2) . « اذْهَبْ إِلَی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَی * فَقُلْ هَل لَّکَ إِلَی أَن تَزَکَّی * وَأَهْدِیکَ إِلَی رَبِّکَ فَتَخْشَی »(3) .
هذا هو الوجه الأوّل من حرکة الدعوة وهو وجه الرفق واللین .
والوجه الآخر وجه یختلف تماما عن هذا الوجه ، وهو وجه العنف والشدة . ولنقرأ بعض ملامح هذا الوجه الآخر فی کتاب اللّه‏ تعالی :
یقول تعالی : « وَاقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَیْثُ أَخْرَجُوکُمْ »(4) . « فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ »(5) . « فَإمَّا تَثقَفَنَّهم فی الحرب فشَرِّد بهم مَن خَلفَهُم »(6) .
وهذا هو الوجه الآخر لحرکة الدعوة ، وهما وجهان متکاملان ، ولیسا وجهین متناقضین ، إنّ الوجه الأوّل هو الذی تواجه به الدعوة الناس فی حرکتها علی وجه الأرض ، فلا یقبل الناس علی هذا الدین إلاّ بالرفق واللین ، ولا تکسب الدعوة قلوب الناس ولا تنفذ إلیها إلاّ بالرفق واللین ، والتفاهم ، والحکمة ، والموعظة الحسنة . ولکن الطاغوت لا یدع هذه الدعوة تتحرک علی وجه الأرض بین الناس لتکسب قلوب الناس وقناعاتهم وإنّما یحاول أن یضع العقبات والعوائق علی مسیرة الدعوة ، ویصدّ الناس عنها ، ویفتنهم لیتخلّوا عنها ، ویعمل علی أَن یحول بین الناس وبین رسالة اللّه‏ تعالی .
ولکی تواصل الدعوة حرکتها علی وجه الأرض ، لابدّ أَن تدافع عن نفسها ، وعن الناس الذین تطلبهم ، ولابدّ أَن تواجه العقبات والفتن التی یزرعها الطاغوت علی طریق حرکة الدعوة بالقوة ، والشدة ، والعنف .
ولا یکاد ینفع هنا الرفق والإحسان . فإنّ لغة الرفق تنفع الناس وتکسبهم الی جانب الدعوة ، أمّا هؤلاء الذین یریدون الکید بالدعوة وبالناس بالعنف والمکر فلا ینفع معهم إلاّ ردّ القوة بالقوة ، والعنف بالعنف ، ورد الکید بالکید ، والمکر بالمکر ، والشدة بالشدة .
وهذا هو الوجه الآخر للدعوة ، ومن دون هذا الوجه لا تستطیع الدعوة أن تواصل حرکتها علی وجه الأرض .
ولکن علینا أن نعرف جیدا أَنّ الوجه الآخر من دون الوجه الأوّل لا یشقّ طریقا للدعوة ، ولا یفتح قلوب الناس . وأَنّ الذی کسب الناس للإسلام فی الفتوحات الإسلامیة العسکریة فی صدر الإسلام لیس القوة والسیف ، وإنّما الرفق واللین ، واستخدم المسلمون القوّة فقط لکسر شوکة الطاغوت وإزالة العقبات من أمام حرکة الدعوة .

طرح القدوة :

المهمة الثانیة للشهید فی الحیاة الدنیا تجسید القدوة .
« لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِیهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن کَانَ یَرْجُواْ اللّه‏َ وَالْیَوُمَ الاْءَخِرَ وَمَن یَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّه‏َ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ »(1) .
الشهید (مذکّر) و(قدوة) :
قلنا : إنّ الدور الأول للشهید هو التذّکیر . ورسالة التذکیر هی الدعوة الی اللّه‏ ، والتذکیر به ، والدعوة الی ( الموقع الوسط ) ، تذکیرا وتعلیما .
والدور الثانی للشهید تجسید القدوة للناس ، للاقتداء والتأسّی . وفی الرسالة الثانیة لا یدعو الشهید الی الموقع الوسط ، وإنما یجسّد بسلوکهِ الموقع الوسط .
والقدوة هو الذی یجسّد ( الموقع الوسط ) فی سلوکه وسیرتهِ . فلا یشذّ عن الموقع الوسط فی قول أو فعل ، ولا ینحرف ، ولا یشطّ ، ولا یقصّر ، ولا یزید .
ویجد الناس فیه تبلورا واقعیا وحقیقیا للموقع الوسط .
والقدوة بهذا التصوّر تعنی المرآة التی یجد الإنسان فیها نفسه وما أَودع اللّه‏ فیه من کنوز الیقین ، والمعرفة ، والتوحید ، والقیم ، والجد ، والعزم ، والشجاعة ، والمقاومة ، والحب .
ویری الإنسان فی ( القدوة ) کل ما أَودع اللّه‏فیه من هذه الکنوز ، فهو من سنخ خلقه إنسان یمشی فی الأسواق ، فما یجد فی القدوة من المعرفة والقیم والکفاءات موجودة عنده ، غیر أَن ( القدوة ) تمکن أَن یبرزها الی الفعل ویخرجها إِخراجا حسنا ، وهو لم یفعل ذلک .
ولو کان الأنبیاء من الملائکة ، لما وجد الإنسان فیهم مرآة صادقة لنفسه ، وقد کان المشرکون یستنکرون أن یکون الرسول من نوع البشر ، یأکل الطعام ، ویمشی فی الأسواق ، ویطلبون أن یکون الرسول من غیر البشر ، من الملائکة ، مثلاً .
ویرد علیهم القرآن الکریم ردا بلیغا :
یقول تعالی : « وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَکَ مِنَ الْمُرْسَلِینَ إِلاَّآ إِنَّهُمْ لَیَأْکُلُونَ الطَّعَامَ وَیَمْشُونَ فِی الاْءَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَکُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَکَانَ رَبُّکَ بَصِیرا * وَقَال الَّذِینَ لاَ یَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَآ أُنزِلَ عَلَیْنَا الْمَلاَآئِکَةُ أَوْ نَرَی رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَکْبَرُواْ فِی أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّا کَبِیرا »(1) .
« وَقَالُواْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ یَأْکُلُ الطَّعَامَ وَیَمْشِی فِی الاْءَسْوَاقِ لَوْلاَآ أُنزِلَ إِلَیْهِ مَلَکٌ فَیَکُونَ مَعَهُ نَذِیرا »(2) . « وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَکا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبسْنَا عَلَیْهِم مَّا یَلْبِسُونَ »(3) .
والرد واضح ، فإن الملک لا یکون قدوة للإنسان ، ولا یکون مرآة تعکس له شخصیته وقیمته وکفاءاته . وبالنتیجة لا یعکس له ما ینبغی أن یکون ، ولا یعکس له مقدار تخلفه وتقصیره .
أما القدوة ( الإنسان ) فیصلح أن یکون مرآة للناس ، تعکس لهم أنفسهم ، وتعکس لهم ما ینبغی أن یصلوا إلیه ویحقّقوه ، وتعکس لهم مقدار تخلفهم وعجزهم ، وتنبه الناس الی ضرورة تدارک أخطائهم وجبر نقاط الضعف والنقص فی سلوکهم ، وتعدیل أفکارهم ، وأعمالهم ، بموجب ما تعکسه هذه المرآة .

اُسلوبان فی الدعوة :

هناک فرق واضح بین اُسلوب الشهید فی الدعوة الی اللّه‏ ، والاُسلوب الذی یتّخذه غیر الشهداء من عامة الناس الی اللّه‏ .
فمن الدعاة من یدعو الناس الی الموقع الوسط ویرشدهم إلیه . أمّا الشهید ( القدوة ) فلما کان یجسد بأقواله وأفعاله الموقع الوسط فهو یأخذ الناس معه الی الموقع الوسط . والناس ـ علی طریق اللّه‏ ـ ینجذبون الی من یقول لهم : هلمّوا معی إلی اللّه‏ ، أکثر ممّا ینجذبون الی من یقول لهم : اذهبوا الی اللّه‏ .
وکانت دعوة الإمام الحسین علیه‏السلام من النوع الأول ، یدعو الناس الی مواجهة الظالمین ، ویتقدّمهم وأَهل بیتهِ وذراریه ، فکان یقول لهم : « نفسی مع أَنفسکم ، وولدی مع أهلیکم وأولادکم »(1) .
یقول الکاشانی فی کتابه : الصافی فی تفسیر القرآن : « أما أصحاب الحسین علیه‏السلام کانوا إذا أرادوا الخروج استأذنوا الحسین علیه‏السلام وقالوا : السلام علیک یا بن رسول اللّه‏ ، فیرد علیهم السلام ، ویقول لهم : نحن علی الأثر قادمون ، ثم یقرأ قوله تعالی : « فمنهم من قضی نحبه ومنهم من ینتظر ومابدّلوا تبدیلاً » »(1) .
ویقول أمیر المؤمنین علیه‏السلام عن حروبه مع رسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله : « کنّا إذا أحمرّ البأس أتّقینا برسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله ، فلم یکن أحد منّا أقرب إلی العدو منه »(2) .
وفی حرب الأحزاب کان رسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله بنفسه یحفر ویحمل التراب من الخندق ویقول : « لا عیش إلاّ عیش الآخرة »(3) .
وإذا کان صلی‏الله‏علیه‏و‏آله مع أَصحابه فی سفر ، وکانوا یوزعون الأعمال فیما بینهم قال : « وعلیّ لمَّ الحطب » .
وهذا هو الفرق بین الشهید وغیره ، إنّ الشهداء من الأنبیاء والأوصیاء والعلماء والدعاة الی اللّه‏ یجسّدون الموقع الوسط ، یأخذون الناس معهم الی هذا الموقع ، أمّا غیر الشهید من العلماء والدعاة ، فیدلّون الناس علی الطریق ، ویدعون الناس الی الأعمال الصالحة .
ولذلک دعوة الشهید لاتضاهیها دعوة ، ولا حرکة ، ولا یکون لغیر الشهید من التأثیر والنفوذ فی حیاة الناس ، ومن القدرة علی تغییر مجری التاریخ ما یکون للشهداء . وفی سیر علمائنا الشهداء نجد نماذج کثیرة من أمثال هؤلاء ممن کانوا یجسّدون المقاومة والثبات والصبر فی البأساء والضراء ، قبل أَن یدعو الناس الیها . وقد کان شیخ الشریعة الأصفهانی رحمه‏الله یحضر بنفسه القتال مع الانکلیز ، وهو فی سن متقدم من الشیخوخة ، وکان یعسکر مع عساکر المجاهدین ویسیر معهم ، وکان القائد العثمانی الترکی یقول : کلمّا أری خیمة شیخ الشریعة المتواضعة فی وسط المعسکر أزداد قوة وطمأنینة وثقة .
وقد أنقلب به القارب فی النهر . وکاد أن یغرق ، لولا أن أنقذه بعض المجاهدین من الغرق .

اهتمام القرآن بالقدوة

وللقرآن اهتمام بلیغ فی طرح القدوة للناس من الانبیاء والشهداء .
یقول تعالی عن رسول اللّه‏ صلی‏الله‏علیه‏و‏آله : « لَّقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّه‏ِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ »(1) .
ویقول تعالی عن إبراهیم الخلیل علیه‏السلام : « قَدْ کَانَتْ لَکُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِیآ إِبْرَاهِیمَ وَالَّذِینَ مَعَهُ »(2) .
ویقول تعالی : « لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فیهم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن کَانَ یَرْجُواْ اللّه‏َ وَالْیَوْمَ الاْءَخِرَ وَمَن یَتَوَلَّ فإِنَّ اللّه‏َ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ »(3) .
وبعکس ذلک ، یشجب القرآن الحالات التی ینفصل فیها الفعل عن القول ، ولا یکون الکلام نابعا من إِیمان وتفاعل وعمل .
یقول تعالی : « لمَ تقولونَ ما لا تَفعَلون کبرُ مقتا عند اللّه‏ أَن تقولوا ما لا تفعلون »(4) .

التأهیل للشهادة :

« إِن یَمْسَسْکُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْکَ الاْءَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیْنَ النَّاسِ وَلِیَعْلَمَ اللّه‏ُ الَّذِینَ ءَامَنُواْ وَیَتَّخِذَ مِنکُمْ شُهَدَآءَ وَاللّه‏ُ لاَ یُحِبُّ الظَّالِمِینَ »(5) .
وکل إنسان یمکن أَن یکون شهیدا ، لکن الشهادة لیست بالأمانی .
وأَنّ التأهیل للشهادة من أشقّ الاُمور . ذلک أنّ الشهادة لیست هی رؤیة الموقع الوسط فقط ، وإنّما هی الحضور فی الموقع الوسط .
وحضور الموقع الوسط یتطلب من الشهید الثبات والمقاومة ، ومن دون الثبات لا یمکن للانسان مواصلة حضور الموقع الوسط لأن الموقع الوسط بطبیعته یضع الإنسان فی ضغوط کثیرة ومتعاکسة ، ولا یتمکّن الانسان من البقاء فی هذا الموقع ، إلاّ إِذا کان یملک ویمارس درجة عالیة من المقاومة والثبات .
ولا یمتلک الشهید هذه الدرجة العالیة من المقاومة والثبات إلاّ بعد المرور بدورة شاقة وعسیرة من الابتلاء والمعاناة . فإن الابتلاء والمعاناة والصبر علیهما یؤهلان الانسان لهذه الرسالة .
ولأمرٍ مّا نجد أَن اللّه‏ تعالی یعرّض الاُمة الشاهدة ، والشهداء من الدعاة لمحن وابتلاءات وعذاب طویل ، فإذا أتمّوا کلمات الابتلاء أولاهم مهمّة الشهادة علی الناس ، واتخذ منهم شهداء .
یقول تعالی : « إِن یَمْسَسْکُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْکَ الاْءَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیْنَ النَّاسِ وَلِیَعْلَمَ اللّه‏ُ الَّذِینَ ءَامَنُواْ وَیَتَّخِذَ مِنکُمْ شُهَدَآءَ واللّه‏ُ لاَ یُحِبُّ الظَّالِمِینَ »(1) .
إنّ الاُمة الشاهدة لا تثبت علی طریق الدعوة ، ولا تستطیع أن تقاوم عواصف المواجهة ، والوان المکر والکید ، إلاّ عبّر معاناة صعبة ، ورحلة عذاب طویلة . وهذه المعاناة والعذاب تؤهلها للشهادة علی الناس ، وتدخلها الجنة .
یقول تعالی : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا یَأْتِکُم مَّثَلُ الَّذِینَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِکُمْ مَّسَّتْهُمُ الْبْأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّی یَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِینَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَی نَصْرُ اللّه‏ِ أَلآ إِنَّ نَصْرَ اللّه‏ِ قَرِیبٌ »(2) .

المقاومة والرؤیة :

إِنّ المعاناة تمنح الإنسان المقاومة ، والمقاومة تمنح الإنسان الرؤیة . یقول تعالی :
« وَالَّذِینَ جَاهَدُواْ فینَا لنَهدینَّهم سُبلنا ، وإِنَّ اللّه‏َ لَمَعَ الْمُحْسِنِینَ »(1) .
والآیة الکریمة صریحة فی أنّ الجهاد یمنح الإنسان الهدایة والرؤیة ، کما یمنحه معیّة اللّه‏ تعالی فی الحرکة علی طریق ذات الشوکة : « وَإِنَّ اللّه‏َ لَمعَ الْمُحْسِنِینَ » .

استحفاظ کتاب اللّه‏ :

المهمة الثالثة للشهید استحفاظ کتاب اللّه‏ وشریعته یقول تعالی : « إِنَّآ أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فیها هُدیً وَنُورٌ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِینَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِیُّونَ وَالاْءَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن کِتَابِ اللّه‏ِ وَکَانُواْ عَلَیْهِ شُهَدَآءَ »(2) .
وهذه هی المهمة الثالثة للشهید ، لأنّ تحریف الکتاب ، وتحریف حدود اللّه‏ وشریعته ، من الوسائل التی تتبعها الجهة المعادیة للدعوة ، فی إِحباط دور الدین ، ومسخه ، وتفریغه من محتواه الحرکی . . . بعد أَن تفشل هذه الجبهة من استئصال الدعوة من حیث الاساس .
ولذلک نظائر فی الشرائع الالهیة السابقة فی تأریخ الدعوة والرسالة . وقد أولی اللّه‏ تعالی الشهداء مهمّة المحافظة علی الکتاب والشریعة من التحریف والتشویه ، واستحفظهم کتابه وحدوده .
وأولی الناس بأن یولیهم اللّه‏ تعالی هذه المهمة هم الشهداء ، فإن الشهداء أکثر الناس وعیا لشریعة اللّه‏ وحرصا علی سلامته .

شروط الشهادة : إنّ المهمّة التی یکلّف اللّه‏ تعالی بها الشهید مهمة ضخمة .

فهو من جانب مذکّر ومعلم ، ومن جانب آخر قدوة ونموذج ، ومن جانب ثالث مسؤول عن حفظ الکتاب والشریعة .
وهذه المهام الثلاثة ترتبط بالکتاب والشریعة من جانب ، ومن جانب آخر بحیاة الناس ، ومهمّة الشهید تطبیق حیاة الناس علی هدی الکتاب والشریعة . وهذه المهمّة الصعبة تتطلّب من الشهید أَن یکون علی درجة عالیة من الاستقامة والاعتدال والالتزام .
وقد تحدّثنا عن ذلک من قبل فی البحث عن القدوة وتجسید الموقع الوسط .
وهذه الاستقامة فی الأنبیاء بمعنی العصمة ، وفی الاُمة الشاهدة ، والدعاة ، والعلماء والشهداء بمعنی العدالة ، وهی الالتزام بحدود اللّه‏ تعالی فی الحرام والحلال .
وهذا الشرط فی الحقیقة ملحوظ فی صلب معنی الشهادة ، فلا نحتاج الی أَن نُطیل الحدیث عنه .

الهوامش:

(1) یونس : 61 .
(1) الکهف : 49 .
(2) لقمان : 16 .
(1) یونس : 61 .
(2) المجادلة : 7 .
(3) العنکبوت : 69 .
(1) الانعام : 59 .
(2) الانعام : 120 .
(1) ق : 16 .
(2) الانبیاء : 110 .
(3) غافر : 19 .
(4) طه : 7 .
(1) الاسراء : 13 .
(2) یس : 65 .
(3) النور : 24 .
(4) الزلزلة : 1 ـ 6 .
(1) ق : 18 .
(2) الانفطار : 11 .
(3) الزخرف : 80 .
(4) النحل : 89 .
(5) النساء : 41 .
(6) الأنبیاء : 110 .
(7) التوبة : 105 .
(1) البقرة : 143 .
(2) البقرة : 143 .
(3) المائدة : 44 .
(4) المائدة : 117 .
(5) النساء : 41 .
(1) النحل : 89 .
(1) البقرة : 143 .
(2) القصص : 77 .
(3) البقرة : 200 .
(1) الاسراء : 29 .
(2) البقرة : 143 .
(1) البقرة : 140 .
(1) مقتل الحسین علیه‏السلام ، عبد الرزاق المقرم ، منشورات بصیرتی ، 1394 ، قم ص476 [وفیه : یا شیعة آل أبی سفیان ، إن لم یکن لکم دین ، وکنتم لا تخافون المعاد فکونوا أحرارا فی دنیاکم ، وارجعوا إلی أحسابکم إن کنتم عربا کما تزعمون] .
(2) طه : 1 و2 .
(1) هود : 112 .
(1) النساء : 165 .
(2) المزمل : 19 .
(3) مصدر سابق ، مقتل الحسین ، عبد الرزاق المقرم ص476 .
(1) نوح : 26 ـ 27 .
(1) الأعراف : 172 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 : 113 الباب الأوّل ، الخطبة الاُولی .
(1) البقرة : 256 .
(2) المدثر : 54 ـ 55 .
(3) المزمل : 19 .
(4) الانعام : 90 .
(1) هود : 120 .
(2) الغاشیة : 21 .
(3) یس : 69 .
(4) ص : 49 .
(5) الحجر : 9 .
(6) الانبیاء : 50 .
(7) القمر : 17 .
(8) الحاقة : 48 .
(9) الاسراء : 41 .
(1) طه : 1 ـ 3 .
(2) ق : 8 .
(3) الحاقة : 12 .
(1) ق : 37 .
(2) الذاریات : 55 .
(3) الرعد : 28 .
(4) الصافات : 13 .
(5) الشعراء : 5 .
(6) المدثر : 49 .
(1) طه : 124 .
(2) الروم : 29 .
(3) الشوری : 14 .
(4) الجاثیة : 23 .
(5) النمل : 14 .
(1) الکهف : 28 .
(2) طه : 124 ـ 127 .
(3) الزخرف : 36 .
(4) الزمر : 36 .
(1) النجم : 29 .
(2) یوسف : 42 .
(3) المجادلة : 19 .
(4) المائدة : 91 .
(5) الفرقان : 18 .
(6) ابراهیم : 6 .
(7) الاعراف : 130 .
(1) الصف : 2 ـ 3 .
(1) بحار الأنوار : 2/69 .
(2) بحار الأنوار : 2/71 .
(3) رجال الکشی : 487 .
(4) وسائل الشیعة : 4/830 .
(5) النحل : 125 .
(6) طه : 43 ـ 44 .
(7) القصص : 55 .
(1) العنکبوت : 46 .
(2) فصلت : 33 ـ 34 .
(3) النازعات : 17 ـ 19 .
(4) البقرة : 191 .
(5) النساء : 91 .
(6) الأنفال : 57 .
(1) الممتحنة : 6 .
(1) الفرقان : 20 ـ 21 .
(2) الفرقان : 7 .
(3) الانعام : 9 .
(1) البحار 44 : 382 باب 37 ، ح2 .
(1) تفسیر الصافی 4 : 181 ، ط . الأعلمی بیروت .
(2) شرح نهج البلاغة 19 : 116 باب 266 .
(3) شرح نهج البلاغة 17 : 273 باب 64 .
(1) الاحزاب : 21 .
(2) الممتحنة : 4 .
(3) الممتحنة : 6 .
(4) الصف : 2 .
(5) آل عمران : 140 .
(1) آل عمران : 140 .
(2) البقرة : 214 .
(1) العنکبوت : 69 .
(2) المائدة : 44 .

مقالات مشابه

معناشناسی واژه اعجمی در کتاب و سنت

نام نشریهعلوم و معارف قرآن و حدیث

نام نویسندهحمیدرضا فهیمی تبار, مهدی آذری‌فرد

معناي واژه «ص-ل-ح» و مشتقات آن در قرآن

نام نشریهمشکوة

نام نویسندهمجید صالحی

مفردات قرآن در «تفسیر المیزان»

نام نشریهعیون

نام نویسندهمحمود حائری, صالح عادلی ساردو

خبری یا انشایی بودن اسلوب «سبحان»

نام نشریهعیون

نام نویسندهوصال میمندی, علی بیانلو, سکینه حجازی